v
تقــــــديم:
معلوم أن المناهج التربوية في تطور مستمر، مما يحدو بنا إلى التساؤل عن كيفية تطورها،وعن مآلها ؟ غير أن الإجابة عن هذه التساؤلات غير ممكنة في ظل تعذر استشراف معالم المستقبل الذي ينتظر أجيالنا القادمة ، ومن ثم لا نستطيع اقتراح المنهاج المناسب لذلك المستقبل .
وبالرغم من هذه الاستحالة يمكننا مقاربة الأسس العامة التي يمكن أن تقوم عليها المناهج التربوية المستقبلية واستنباط التوجيهات التربوية المرتبطة بها معتمدين في ذلك على الدراسة التي قام بها " ليون استيف " أستاذ التربية في جامعة "تمبل فلوريدا" بالولايات المتحدة الأمريكية . وهل يمكننا المجازفة فعلا بوضع منهاج جديد لجيل جديد ؟
ونحن نقف على عتبة عصر الفضاء والتكنولوجية العالية وارتياد عوالم جديدة في كل مجالات العلم والمعرفة ، ونحس بمزيد من الخطورة الناشئة عن استخدامنا للمعارف الجديدة على اوسع نطاق .
تبدو المدرسة في وضعنا الراهن غير قادرة على أن تواكب ركب التطور بكل ما يتسم به من سرعة وتعقيد ، ولا بد لنا جميعا وللقائمين على الحقل التربوي بخاصة من وقفة تأمل طويلة نتساءل فيها عما أعددنا من وسائل المحافظة على البقاء. والتعامل مع مشكلات المستقبل المنشود ، وكيف سلحنا الناشئة من أجل خوض معركة الحياة المستقبلية ، فهل يمكن للمدرسة أن تتسلم زمام المبادرة في هذا المجال؟؟ فتضع لطلابها مناهج جديدة ، تسهم في بناء مجتمع تعاوني يتبني أسمى المبادئ والقيم الإنسانية ويلغي التمييز العنصري، ويؤمن الغذاء والدواء للجميع ، ويحارب الاستغلال والفساد وينمي قدرات الفرد في مجالات التعليم الذاتي والاعتماد على النفس ، ويمكن من وضع ضوابط قادرة على كبح جماح اقتصادنا الموضوع في مهب العولمة ورياح الازمات الاقتصادية وتمنعه من الانفلات والتدمير الداتي كما حدث لكثير من الاقطار في ضل الربيع العربي ؟ ...
نقدم هذه الدراسة كمحاولة متواضعة للرد على مثل هذه الأسئلة .
ينجلي الغموض – في نظري – وتزداد الأمور وضوحا كلما قمت بزيارة مؤسسة تعليمية ما ،وكلما فتحت نقاشا تربويا مع التلامذة .
فمدارسنا تمنى بالفشل يوما بعد يوم.بسبب فشل السلطات التربوية في وضع مخططات تعليمية جديدة صالحة للتعامل مع العالم المتغير من حولنا . ذلك لان تغيرات هائلة قد ألمت بعالمنا هذا خلال حقبة الخمسين عاما المنصرمة. وليس الطيران الذي تفوق سرعته الصوت ، واكتشاف الطاقة النووية وتسيير المشاريع العملاقة بالطاقة الكهربائية أو غيرها من أشكال الطاقة الأخرى ، والأنماط الحضارية المتغيرة على نطاق عالمي ، والمتغيرات كثيرة في أشكال الحرف والمهن ، واختراع التلفزيونات والهواتف الذكية والطرق السيارة المعلوماتية و..... وإنشاء الهيئات والمجالس العالمية حقوقية كانت ام بحثية ، والتحولات في تركيب الأسرة ، وتزايد اعتماد الأمم المتحدة مع بعضها البعض ، وقهر الأمراض المستعصية ، واكتشاف الفضاء ، والتقدم في بحوث علوم الأحياء ، والتحكم في النسل و.... إلى أمثلة من تلك المتغيرات.
أما فيما يتعلق بالتغيرات التي يمكن التنبؤ بوقوعها في المستقبل ، فما من أحد يستطيع أن يؤكد ما إذا كانت ستتحقق فعلا وإن بقي بعضها في إطار حكم الممكن كاحتمال العثور على مصادر غير محدودة للطاقة ، واستعمار الفضاء ، واختراع جديدة للمواصلات والاتصالات وتحكم في علم الوراثة واستنساخ البشر والحجر؟؟؟ ، وتصنيع حبوب ضد أمراض الشيخوخة وما إليها ...
ورغم كل هذه المتغيرات الكبيرة والكثيرة ، لا زالت مدارسنا تمارس التعليم على أسس لا تختلف كثيرا عما كانت عليه عندما عرفت المدرس أول مرة .
رغم ما عرفته فترة التسعينات من محاولات في مجال التجديد التربوي ببلادنا ، فمن الواضح الآن أن الإرادة السياسية التربوية تشق طريق العودة بالتربية على أنماطها " الأساسية " التي تعتمد تعليم القراءة والكتابة والحساب بأشكالها التقليدية ، كما أن بعض الكتابات الحديثة تنوه بتوجهات رجعية للعودة إلى تعليم المبادئ " الأساسية " للنحو والصف" الصحيحة " لتعليم القراءة . ودعم اللغات المحلية بدلا من طرح تصور حداثي للفعل التربوي بالمغرب على غرار ما جاء به الكتاب الأبيض للتربية والتكوين .
ليس هناك من شك في أن التربية التقليدية فيها من الخير الشيء الكبير ، غير أنني أعتقد بأن ردة الفعل الحالية تنبثق عن انعدام التأمل والتفكير فيما يجب أن تكون عليه المدرسة في عصرنا الحاضر . لقد كان من المبتكرات التي عرفتها فترة التسعينات فكرة الابتعاد عن الأساليب التربوية التقليدية ذات النسق الموحد ، غير أنني أميل إلى الاعتقاد بأن الغاية التربوية – التي كانت المسيرة تتجه إليها آنذاك – لم تكن واضحة ، فلقد كان هنالك ، وما زال ، عجز في تصور أهداف بعيدة المدى ، ذات معالم واضحة وقادرة على إعداد الأطفال للعيش في عالم المستقبل . حقا لقد أصبحت المدارس الآن أقل صرامة وأكثر إنسانية من ذي قبل ، ولكنها فشلت على كل حال ، في إيجاد أسس منطقية وسليمة ، يمكن على ضوئها تحديد الأمور الأكثر أهمية بالنسبة لتعليم الأطفال في عصرنا الحاضر الذي تعصف به رياح التغيير منكل حدب وصوب .
إن المسألة الهامة التي يجب أن تشغل بال القائمين على قطاع التعليم في حقبتنا التاريخية هذه، هو القيام بما يجب أن تفعله المدارس من أجل أن تمنح الأطفال القدرة على العيش في مستقبل حياتهم .
كانت الإجابة عن مثل هذا السؤال أشد يسرا ووضوحا في فترة ما قبل الاستعمار .
ففي هذه الفترة على سبيل المثال ، كان الصغار يتعلمون الحرفة بالتدرب على أيدي الكبار ، فقد كانت الأمور فيما مضى أشد بساطة وكانت الأشياء أكثر ثباتا ، فكانت التربية تعد الأطفال لأدوار تقليدية معروفة وتستخدم تلقينهم التراث والأدوار التي يتطلبها ما يختارونه لأنفسهم من حرف، وفي تعريفهم بالرموز والطقوس التي كانت تسود في مجتمعاتهم فكانت المدارس التقليدية تعيد انتاج واقعها .
أما في المجتمعات الأكثر عصرية وحداثة ، ما قبل الثورة الصناعية بالتحديد ، فقد انحصرت مهمة المدرسة في تعليم التلاميذ أسس الكتابة والقراءة ووسائل التواصل ، بينما كان العالم الخارجي (بما في ذلك البيت والمجتمع ) يضطلع بمهمة إعداد الأطفال لكل ما يتعلق بالاحتراف المهني من جهة ، وبالنواحي الروحية والأخلاقية من جهة أخرى.
أما عالم اليوم الشديد التركيب و التعقيد ، فقد تبدل كل شيء إلى درجة اصبحت معها الغايات التربوية من التعليم المدرسي محاطة بالغموض واصبح الواقع المعيش بتحدى منظومة القيم المدرسية. وإنني لأعتقد بحق, أن مدارس اليوم لن تتمكن من إعداد الأطفال إعدادا يتناسب ومتطلبات عالمهم الجديد، إذا ما اكتفت بمجرد التركيز على تلقيهم المبادئ الأساسية للقراءة والكتابة ووسائل التواصل،واهملت الحياة المدرسية بكل ابعادها التثقيقية والتواصلية والترفيهية , فنحن نعيش في زمن يتسم بالتغير السريع ، والمشاكل المجتمعية اصبحت تطالب المدارس بإلحاح شديد أن تبتدع " منهجا تعليميا " قادرا على أن يقدم للأطفال وبصورة منتظمة ، المعلومات والمهارات التي يحتاجونها في تعاملهم مع العالم الذي يفترض أنهم سيعيشون فيه .
ولكي تكون المدارس كذالك يقترح المفكر التربوي "ليون استيف " عشر أفكار كبرى –يمكن أن تشكل الحجر الأساس لمثل هذا المنهاج المدرسي – الكفيل بتقديم المهارات والمعارف ما تحتاجه الناشئة لمواجهة التحديات في مجتمع دائب التغير قائم على التكنولوجيا والطرق المعلوماتية السريعة .
ما يهمنا هو محاولة الاستفادة من هذه الأفكار في وضع منهاج تربوي مغربي منفتح ومتفتح قادر على تقديم العون لتلامذتنا في مواجهة التحديات والمشكلات على مدى السنوات القادمة ، ويؤمن لهم عيشة راضية تتسم بالفعالية وتزهر بالنشاط . في ما سيأتي سأعرض هذه الأفكار العشر باقتضاب ، ومن ثم أقوم باقتراح بعض الطرائق والأساليب التعليمية التي تعين المدارس المغربية على تضمين التغيرات الموجودة في مخططاتها لمناهجها (الجديدة) ، معتمدا في ذلك على أفكار " ليون استيف " وفلسفته التربوية .
0 التعليقات:
إرسال تعليق